الخميس، 6 أكتوبر 2016

مقال حول الإدراك

الإدراك
أي وظيفة يؤديها الإحساس؟ و أي علاقة بينه و بين المعرفة؟
استثمار النتائج وربطها بالمضامين
الإحساس ظاهرة نفسية متولدة من تأثر إحدى الحواس بمؤثر ما. ( تعريف جميل صليبا)
و يعني كذلك " الأثـر النفسـي الناتـج عـن إثـارة عضـو حـاس".
لقد زود ‏الله الإنسان بمجموعة من الحواس والتي تعتبر المداخل التي تصل إلينا عن طريقها معرفتنا بالعالم الخارجي ولكي يستطيع الإنسان وكل كاثن حي أن يعيش يجب أن يحس ويدرك العالم الذي يعيش فيه حتى يستطيع أن يقوم بالاستجابات المناسبة وأن يتوافق لما يحدث في هذا العالم من تغيرات .
 
‏ولكي نعرف الإدراك لا بد من التعرف على الإحساس كخطوة أولى في عملية الإدراك
 
صفاته: - الإحساس أولي و بسيط : إذ لا وجود لواسطة بين المؤثر و الحاسة، فالإحساس يتم بطريقة أولية و مباشرة، علما أن الانتقال يكون لصورة المؤثر لا مادته.
- الإحساس مركب: إذ يقتضي : - وجود المؤثر- العضو الحاس - شعور باطني و استجابة
ولا بد لنا أن نشير هنا إلى الخطوات الرئيسية لحدوث الإحساس وهي :
 
‏1 - أن يكون هناك منبه أو مثير. والمنبه عبارة عن نوع خاص من الطاقة التي تؤثر في الخلايا المستقبلة كالطاقة الضوئية أو الميكانيكية أو الكيميائية .
 
‏2 - أن يؤثر المنبه في الخلايا المستقبلة . وهي خلايا حسية متخصصة لاستقبال تنبيهات حسية معينة تدفعها إلى النشاط فتنطلق منها نبضات عصبية . وتتأثر الخلايا المستقبلة عادة بالتغيرات التي تحدث في أنواع معينة من الطاقة . فخلايا البصر تتأثر بالموجات الضوئية،وخلايا السمح تتأثر بالموجات الصوتية، وخلايا كل من الشم والتذوق تتأثر بالمواد ‏الكيميائية . . وهكذا...
3 - تقوم الأعصاب بنقل النبضات العصبية من الخلايا المستقبلة إلى المخ .
 
4 ‏- يحدث تنبيه في المراكز الحسية بالمخ يؤدي إلى الشعور بالإحساس . وتوجد بالمخ مراكز خاصة للإحساسات المختلفة .
 
‏والإحساس يتكون من هذه الخطوات الرئيسية السابقة فإذا تعطلت أي خطوة منها تعطل حدوث الإحساس .
- الإحساس أولي و بسيط في تلقائية حدوثه و مركب في آلية جريانه.
- الإحساس متنوع : يتبع الإحساس العضو الحاس. فلو أسقطنا مثير واحد على حواس مختلفة لكان لدينا إحساسات مختلفة.
- الإحساس واحد في تحصيل نتائجه ، فالحواس و على الرغم من تنوعها إلا أنها تشترك في آلية التركيب و كيفية الحدوث.
استنتاج: الإحساس متنوع إلا أنه واحد في تحصيل نتائجه.
وظيفته: للإحساس علاقة بالتكيف و حفظ البقاء و هذا قاسم مشترك بين الإنسان و الحيوان . ومع أن الإحساس ترافقه حالات انفعالية كما قد يولد انطباعات نفسية داخلية إلا أنه مع ذلك لا يمكن المطابقة بين الإحساس و الشعور.
استنتاج: العمليات الحسية على الرغم من أهميتها لحياة الإنسان، إلا أنها ليست كافية وحدها لتوجيه سلوكه التوافقي في هذا العالم المعقد الذي نعيش فيه.
- يرتبط الإحساس بالتأقلم مع العالم الخارجي أكثر من ارتباطه بمعرفة العالم الخارجي.
- طبيعة الإحساس حيوية أكثر منها نفسية
- لا يمكن أن يكون الإحساس وحده أداة للمعرفة حيث لا يمكن فصله عن الحياة النفسية للإنسان إذ لا وجود لإحساس خالص.
- الإحساس يقدم المعطيات الأولية و المادة الخام للإدراك.
ماذا عن الإدراك كمعرفة عقلية تطلعنا على حقيقة العالم الخارجي؟
نسبية المعرفة في إدراكنا الحسي:
 
يختلف إدراكنا للعالم الخارجي باختلاف الناس بل قد يختلف حتى بالنسبة للشخص الواحد و هذا ما يجعل معارفنا نسبية و هذا راجع إلى عوامل عديدة هي التي تكون من وراء الوقوع في أخطاء الإدراك.
1- عوامل الإدراك
أ-عوامل نفسية و عقلية: تتأثر عملية الإدراك ببعض العوامل الذاتية لدى المدرك مثل ميوله وخبرته السابقة ودرجة تأهبه لإدراك المثير( فإذا كنت تنتظر صديقاً فأنت تظن أن الشخص القادم من بعيد هو صديقك( والتعاطف و الكبت و الإسقاط. و الخبرة فنحن ندرك معنى المثير وفقاً للمثيرات التي تسبقه أو تصاحبه أو تلحقه.
يتأثر الإدراك الحسي بكثير من العوامل المتعلقة بخصائص الفرد المدرك وتؤدي هذه ‏العوامل الشخصية إلى حدوث الكثير من الاختلافات في إدراك الأفراد المختلفين للموقف الواحد.
1 - التهيؤ: أي أن استعداد العقل لإدراك موضوع معين يجعله مدرك بطريقة معينة مرتبطة بذلك الاستعداد، فمن الممكن إيجاد حالة بسيطة من التهيؤ عند بعض الأفراد بتوجيه بعض التعليمات إليهم بحيث تجعلهم يتوقعون رؤية شيء معين . ثم نعرض عليهم موقفا تنبيهيا غامضا نسبيا لفترة قصيرة ثم نطلب منهم أن يحددوا ما رأوا وقد وجد أن بعض ‏الأفراد في مثل هذه ‏المواقف يدركون هذا الشيء الغامض على أنه شيء آخر تبعا لتوقعاتهم التي ولدتها فيهم التعليمات التي وجهت إليهم، أي تبعا لإدراك شيء معين .
 
2- الخبرة السابقة: إن خبراتنا السابقة تؤثر في كل ما ندركه حيث تمدنا بمعاني الأشياء التي ندركها، فنحن ندرك في المواقف و الأشياء ما نتوقع لأن ندركه منها بناء على خبرتنا السابقة بها . كما أن إدراك الأفراد للموقف الواحد تبعا لاختلاف خبراتهم السابقة بهذا الموقف فقد يرى طفلان كلبا في الطريق، فيجري أحدهما بعيدا محنه خوفا منه، بينما يجري الآخر نحوه ‏ليداعبه .
3- الدوافع: إن د‏وافع الفرد ‏ تؤثر في إد‏راكه الحسي فقد بينت الدراسات أن الأفراد‏الجائعين يدركون بعض الرسوم الغامضة كأنها طعام ، وكذلك كان د‏افع الجوع يدفع بالأفراد ‏إلى رؤية الطعام في حجم أكبر من حجمه الحقيقي .
4- الحالة الانفعالية: تؤثر المواقف الانفعالية التي يمر فيها الفرد كحالات القلق والغضب والخوف والحزن والفرح وغيرها في طريقة إدراك الفرد للمواقف والمثيرات التي يواجهها. إذ إن مثل هذه الحالات الإنفعالية غالبا ما تصرف إنتباه الفرد عن المثيرات والمواقف وتقلل من مستوى التركيز فيها, الأمر الذي يؤدي إلى تفسيرها على نحو غير موضوعي.
ب- عوامل موضوعية و بيئية : و تتعلق بالموضوع المدرك كالشكل و الأرضية و التشابه و التقارب و الضوء و الظل و الحركة.
إن بعض التنظيمات الإدراكية تحدث عنا جميع الناس بطريقة مماثلة، وهي مستقلة نسبيا عن خبراتنا السابقة، وتسمى هذه ‏التنظيمات الإدراكية بالتنظيمات الفطرية للإدراك الحسي. ومنها ما يلي:
 
‏ا - الشكل والأرضية: إننا نميل إلى تنظيم المدركات البصرية التي نراها إلى شكل وأرضية، فقراءة صفحة من الكتاب لا تبدو لنا بقعا من اللونين الأبيض والأسود وإنما كحروف ‏وكلمات سوداء تبدو واضحة على أرضية بيضاء، وفي كل إدراك أخر فإننا نقوم بتنظيم الموقف بحيث نرى شكلا واضحا متميزا عن الأرضية التي تبدو فيها،
 
2- التقارب: إن تقارب العناصر أو الجزئيات بعضها من بعض يؤدي إلى إدراكنا لها في تنظيم أو سياق معين. ‏
التشابه: أي أن العناصر المتشابهة من حيث اللون، والشكل، والحجم والسرعة واتجاه الحركة أو النوع تميل إلى التجمع في وحدة أو نموذج أو نمط متميز أكثر من العناصر غير المتشابهة .
الاستمرار: إننا نميل إلى أن ندرك خطوطا أو أنماطا مستمرة أو متصلة، ففي أي موقف إد‏راكي معقد نميل إلى إد‏راك التنظيمات التي تتماسك أجزاؤها بأكبر قدر من الاستمرار أو الاتصال.
 
الإغلاق: إننا نقوم في عملية الإدراك الحسي بملء الفجوات وسد الثغرات في الموقف التنبيهي لكي نجعل له شيئا له معنى.
الشمول : إن السياق الذي يستخدم كل العناصر في الشكل يكون أكثر قابلية للاد‏راك من أي سياق آخر لا يستخدم جميع عناصر .
ج- عوامل اجتماعية و ثقافية كالوضع الاجتماعي و التقاليد و الأعراف و القيم الاجتماعية: تؤثر طبيعة القيم والأمور التي يؤمن بها الفرد في إدراكه للعديد من المواقف والمثيرات وفي طبيعة المعاني والتفسيرات التي يعطيها لها. استنتاج : الإدراك في آليته ليس واحدا عند جميع الناس بفعل عوامل نفسية و عقلية و بيئية و اجتماعية الأمر الذي يجعل معارفنا بالعالم الخارجي نسبية.
2- أخطاء الإدراك و أمراضه
أ- أخطاء الإدراك: الخطأ الإدراكي هو إدراك خاطئ أو غير صحيح لا ينطبق على حقيقة الشيء المدرك إذا قيس بطريقة موضوعية . و كثيرا من هذه الأخطاء مشتركة بين الناس جميعا. و من أمثلة أخطاء الإدراك:
- الخداع البصري : ومن أمثلتها خداع الطول أو المسافة ويسمى (خداع موللر - لاير) ‏
ومن أمثلتها حسب قانون الانكسار (العصا في الماء تبدو لنا وكأنها مكسورة).
 

- الخداع الحركي: حيث يتم إدراك حركة لا وجود فعلي لها. ظاهرة في.
ب- أمراض الإدراك
وهي عديدة أشهرها الهلاوس: هي اضطرابات سلوكية يدرك فيها الشخص مثيرات لا وجود لها في عالم الواقع وقد تكون هذه الهلاوس ( بصرية ) أو ( سمعية ) أو (لمسية ) أو غير ذلك . و تعتبر الهلاوس من علامات الذهان ( وهو مرض عقلي ) كما يعانى منه مدمنو المخدرات.
فلسفة الإدراك ومستويات التمييز بين (الإحساس والإدراك) و (عدم التمييز بينهما)
فحين نعبّر بالقول نحن نرى أو نسمع أو نلمس هذا الشيء، فإننا نقصد بهذا الكلام العملية الإدراكية التي تجتمع فيها المؤهّلات العقلية والمعرفية مع العناصر الحسية والحركية. فالإدراك ما هو إلا نتاج لهذه العلاقة الثنائية بين قطبي العقل والحس. والخلاف الفلسفي حول مسألة طبيعة الإدراك لا يستهدف نفي أو استبعاد أحد هذين القطبين، بل هو خلاف يدور برمته حول أسبقية الواحد منهما على الآخر. ولذلك تطرح مسألة طبيعة الإدراك إشكالية فلسفية مألوفة تتلخص بالسؤال التالي: هل يمكن الفصل بين الإحساس و الإدراك؟
ليس من شك في أن الإجابة على هذه التساؤل ستتوزع تبعًا للفلسفات المختلفة لتنتج حلولاً متباينة. وبهذا الشكل تختلف التفسيرات وتتعدّد النظريات التي تحاول أن تجد جوابًا للإشكالية المعقدة التي تتناول مسألة "طبيعة الإدراك".
- في المذاهب التقليدية: عرض ومناقشة رأي الحسيين ورأي الذهنيين
النظرية العقلانية: (الإدراك هو حكم عقلي):
العقليون فلا ينكرون وجود الحواس وأن لها دورا ما في الإدراك. ولكنهم يأخذون على التجريبيين اعتمادهم التام عليها طريقا للمعرفة، ثم يخالفونهم في اعتبار العقل محصورا في مهمة الحواس. ويقول العقليون: إن التجربة التي تحصل بوساطة الحواس مضللة موهمة، وإن الحواس لخداعة كذابة مخطئة لو اعتمدنا عليها كل الاعتماد في الإدراك، ذلك أن الإدراك الحسي إنما يخبرنا عما يتعلق بحالة واحدة من أحوال الشيء، كما أن ما تظهرنا عليه الحواس ليس إلا مظهر الأشياء فحسب، ولا تطلعنا على حقيقتها. وهذا لا يعني إنكار دور الحواس نهائيا في الإدراك، ولكن التجارب الحسية إنما تقدم عليها المعاني الأولية التي على أساسها تفهم التجربة ويحصل الإدراك الحسي. فالعقل أساس الحواس وموجه للإدراك الحسي.
العقليين الذين يقدمون في الأهمية على الحواس طريقا آخر وهو العقل. ولكنهم لا ينكرونها كلية. ولعل أقسى العقليين على الإدراك الحسية ودور الحواس في الإدراك أفلاطون، إلا أنه يعتبر الإحساس أول مراحل الإدراك ولكنه يعتبر دور الحواس لا يعدو أن يكون مذكرا للنفس لتعود إلى علمها الأزلي الكامن فيها، والذي نسيته بسبب تعلقها بالبدن أو حلولها فيه.
والحس عند الاتجاه العقلي الحديث كديكارت مثلا، ليس مصدر أساسيا للمعرفة، ولكنه مصدر أو طريق يقدم للفطرة بما فيها من أفكار فطرية مادة معرفة، والمعاني إنما تستنبط من النفس أو إنما تعود إلى الحدوس العقلية، بل إن الثقة بما تقدمه الحواس، إنما يعود إلى وضوح البديهيات العقلية وتميزها، أما المحسوسات قبل توثيق العقل لها فهي مصدر شك وخداع، وأنه لا قيمة لإحساسنا دون أن نعرفها معرفة واضحة متميزة، وإلا إذا التزمنا اعتبارها أفكارا فحسب، ومن ثم تكون لنا بها معرفة.
يميز العقلانيون من مثل ديكارت وآلان بين الأفكار التي هي أحوال نفسية موجودة في الذات وبين الأشياء المادية والتي هي امتدادات موجودة خارج الذات . ومادام الإدراك مجرد حالة ذاتية غير ممتدة فان إدراك شيء ما يكون بواسطة أحكام على الشيء وبخصائصه وصفاته وكيفياته كما هو عليها.
وعلى هذا يكون الإدراك عملية عقلية بحتة و الدليل على ذلك هو إدراك البعد الثالث الذي لا يقابله أي انطباع حسي من ذلك مثال المكعب حيث يتم إدراكه من خلال رسومات على لوح مسطح .فبالرغم أن الرسم لا يوجد فيه عمق إلا أن العقل يستطيع إدراكه بوضوح.
ويدعم كانط الموقف العقلاني بما يقدمه من تفسير للإدراك المكاني. إن فكرة المكان لا تتولد من التجربة الحسية بل هي تصدر عن الذات المدركة( العقل)، فالمكان وكذلك الزمان قالبان عقليان سابقان على التجربة تصب فيهما معطيات التجربة الحسية وبواسطتها تصبح الأشياء الحسية قابلة للإدراك .
نقد النظرية العقلية: ليس من شك في أن الحجج التي ترتكز إليها النظرية العقلانية هي في غاية الأهمية. فالتكوين العلمي للشخص المدرك وكذلك سائر العناصر المعرفية المتحكمة بعملية الإدراك،ولكن يبدو أن للعناصر الذاتية دوراً هامًا هي الأخرى في عملية الإدراك. وحتى العناصر العقلية نفسها التي يتحدث عنها أصحاب النزعة العقلية ليست من طبيعة موضوعية صرفة. ولذلك لا بدّ من التنبه إلى أمر هام، غفل عنه العقلانيون، وقرّره بياجه، وهو أن المعارف التي يتمتع بها الشخص الواحد ليست هي نفسها دائمًا، بل هي عرضة لتغير وتبدّل مستمر.
النظرية الحسية: (الإحساس مصدر كل معرفة): نجد أن التجريبيين أو الحسيين يبالغون في الاعتماد على الحواس طريقا للإدراك، بل ويعدونها المنبع الوحيد والسبيل الرئيسي للمعرفة. وتقوم نظرتهم لغيرها من الطرق، كالعقل، على أنه تابع للحواس، بل وتعتمد عليها كلية وينحصر دوره فيما تقدمه له هذه الحواس، بل هو لا يعدو أن يكون مستقبلا، هذا إن كان ثمة اعتراف به وبدوره في المعرفة.
فالإحساس عند الأبيقوريين مثلا، أصل المعرفة وطريقها الوحيد، والإحساسات تعطينا صورة صادقة للأشياء أي صورة مطابقة لواقعها، "وخطأ الحواس ليس يقع في الإدراك بل في الحكم الذي يضيفه العقل إلى الإدراك".
والرواقيون يبالغون في الاعتماد على الحواس طريقا وحيدا للمعرفة، إذ هي تتصل بالماديات، والوجود عندهم كله مادي، حتى العقل نفسه فإنه مادة إذ النفس مادية، والإنسان يولد وعقله صحيفة بيضاء خالية من كل معرفة، ثم تنطبع فيها صور الأشياء عن طريق الحواس، والعقل حاسة من الحواس، وهو يقوم بالتجريد والإضافة والتأليف والنقل والمضاهاة، ولا يستطيع في عمله ذلك الخروج عما تقدمه له الحواس الخارجية.
والتجريبية الحديثة كذلك تجعل التجربة أو الحواس طريقا وحيدا للإدراك. فالتجربة عند لوك مثلا نوعان: تجربة حسية أو إدراك حسي يعتمد على الإحساس المباشر ويقوم على تلقي الانطباعات الحسية، وتجربة باطنية أو تأمل يعتمد على التفكير ويقوم على ربط الإحساسات الخارجية وتكوين أفكار منها. فالأفكار العقلية ليست في النهاية إلا صورة من التجربة وإن كان هذا التوسع في معنى التجربة عند "لوك" يعد تقدما نحو إقرار بالعقل إلا أن مهمته عنده ما تزال سلبية. وإذا ما نظرنا إلى الاتجاه الحسي المتطرف، لدى "كوندياك" نجده يقتصر على الإحساس الظاهري ويستغني عن التفكير كمصدر للمعرفة، ويرى أن أي إحساس ظاهري كاف لتوليد جميع القوى النفسية، وأنه عند أول إحساس يوجد شيء واحد في الشعور، وهو إحساس واحد لا غير، ويكون هذا هو الانتباه، ويبقى هذا الإحساس ومع إحساس آخر تحصل الذاكرة، وبتوجيه الانتباه إلى الإحساس الحاضر والإحساس الماضي تحدث المقارنة أو المضاهاة، وبإدراك المضاهاة مشابهة ومفارقة يتكون الحكم، وإذا تكررت المضاهاة والحكم كان الاستدلال. فعمليات العقل إذن ليست إلا إحساسا خارجيا أصلا. أما الفيلسوف الحسي "هيوم"، فيرى أن الأفكار ليست إلا صورا باهتة للانطباعات الحسية القادمة من الحواس، ومن ثم فهو يجرد العقل من كل فاعلية، وأن ما ينشأ في العقل من انفعالات وإدراكات قوية بارزة فهو من الحواس الخارجية، بحيث تحدث صور لهذه الانفعالات، وتنشأ علاقات فيما بينها وبين المعاني بفضل قوانين تداعي المعاني أو التشابه و الاقتران في الزمان والمكان والعلية، وهذه القوانين ليست أولية أو غريزية في العقل وإنما هي تكرار للتجربة كما أنها ليست قائمة في الخارج.
نقد:
إن في مذهبهم هذا تحديداً لطاقة الفكر البشري، وإنقاصا لفعالية العقل، ليس العقل بمفهومه التجريبي عندهم، وإنما العقل طريقا للمعرفة. كما أن اعتبارهم الحواس أو التجربة هي الطريق الوحيد للمعرفة يوقعهم في تناقض واضح. ذلك أن هذه القاعدة التي يقررونها في اعتبار الحواس طريقا للمعرفة هل هي قضية حسية أي ثبوتها بالحس أم لا؟ ومن المستحيل أن تكون ثابتة بالحس إذ أن التجربة أو الحس لا يمكن أن يكون دليلا على صدق نفسه، وإن لم تكن ثابتة بالحس فقد ثبت أنهم يؤمنون بحقائق وراء التجربة وليس ذلك إلا العقل.
- في المذاهب المعاصرة : عرض ومناقشة رأي الغشطالطيين ورأي الظواهريين
موقف علم النفس الشكلي (الغشطالت) (الإدراك كمعطى كلي)
رفض فلاسفة "الجشطالت" التمييز بيم الإحساس والإدراك وعندهم لا وجود لإحساس خالص كما دافعوا عن العوامل الموضوعية المتمثلة في الشيء المدرك ولم يهتموا بالعوامل الذاتية, وملخص أطروحتهم أن الشكل الذي تظهر به الأشياء هو العامل الأساسي في إدراكنا.
بالتالي فإن فلاسفة الغشطالت لا يقرّون بوجود مستويين في عملية الإدراك. مستوى الحس ثم مستوى الإدراك. فالإدراك هو عملية واحدة؛ إنه إدراك كلي ومباشر للموضوعات، وهذا يعني أن الإدراك هو معطى كلي، فالكل هو الذي يدرك دفعة واحدة، ومن خلال الكلّ ندرك التفاصيل والعناصر، ومن خلال الكلّ تأخذ الأجزاء معانيها ودلالاتها. وهذه البنية الكلية هي بنية فطرية تقدّم لنا الموضوعات المدركة في شكل متوحد (غشطالت). فالأولية في عملية الإدراك هي أولية الكل وليس العناصر. وكما يلاحظ غيوم فإن الموضوع المدرَك هو كل لا يمكن قسمته إلى أجزاء متمايزة وفردانية. إن له بنية كلية وشكل عام، فهو يشكل وحدة تتحكم بكل جزئياتها، حتى أن الجزء الذي ينتمي إلى هذا الكل المتوحد يختلف هو نفسه حين ينخرط في كل متوحد آخر.
نستخلص من هذا كله أن علم نفس الشكل يرى أن الإدراك ليس تركيبة من أحاسيس سابقة، بل إن موضوع الإدراك المباشر هو المجموع وليس الأجزاء الداخلة فيه. فإننا بالتأكيد لا نقوم بعمل ذهني لجمع الأجزاء في إدراك واحد، بل إن الأجزاء تظهر في الوعي مباشرة في توليفة، أي في شكل أصيل (Une Gestalt)، فالمُعطى الأول هو الشكل وليس الجزء.
إن فلاسفة الشكل يحولون الذات المدركة إلى ذاكرة سلبية تحفظ صورًا عن العالم الخارجي. لكن الواقع، كما يقول برادين وبياجه، أن الإدراك هو فعل تكوين الأشياء عبر دينامية العقل في علاقته بحقائق العالم الخارجي.
فالإدراك ليس مجرّد تقبل سلبي ولا هو استنساخ للأشياء الخارجية. بالتالي فإن اعتراض بياجه على فلاسفة الشكل، يرتكز على استبعادهم لفعالية الذات وأبعاد الشخصية. فالإدراك حسب بياجه يرتبط بمقوّمات الذات وما تحمله في طياتها من تجارب سابقة وذاكرة حية ورغبات وقيم.
النظرية الظواهرية (الفينومينولوجية): (الإدراك و التعايش مع الأشياء):
ترفض فلسفة الظواهر التمييز بين الإحساس والإدراك. ويعتبر الظواهريون أن الوعي هو الذي يبني الواقع ويؤسس المعاني والدلالات، أي أنهم يقفون على الطرف النقيض من نظرية الغشطالت التي زعمت أن الواقع موجود سلفًا كبنية كلية متوحدة.
يؤكد ميرلوبونتي على أهمية الذات وأوليتها في العملية الإدراكية، كما يبيّن أن وضع الجسد له انعكاساته على الإدراك. فالإدراك هو موقف للوعي بإزاء الموضوعات. إنه موقف يتأسس على الذات المدركة أكثر مما هو منوط بموضوع الإدراك. وهذا ما يؤكده ديلاي حين يعتبر أن شخصيتنا برمتها تنعكس على رؤيتنا للعالم. فالأشكال والموضوعات المدركة لا تنقلب إلى عملية إدراكية إلا من خلال مرورها في عمق الذات. وهذا يعني أن العوامل الذاتية لها شأن أساسي في عملية الإدراك. فالميول والقيم والثقافة لها انعكاساتها على عملية الإدراك وأنماط السلوك.
و يشير هوسرل إلى أن الإدراك ليس تجربة داخلية محايثة للوعي و إنما هو فعل الوعي الذي يقصد موضوعا متعاليا أي موضوعا خارجا عنه، الإدراك ليس مجرد فهم آلي للمعنى بطريقة جافة ، بل هو الوصول إلى عمق المعنى،ولا يكون ذلك إلا بالشعور، ومثال ذلك عند الظواهرية أن الفرق بين العربة الخشبية الفارغة والعربة التي تحمل ثقلا هو فرق في الشعور أي أننا نختلف في إدراكنا للشيء الواحد اختلاف الشعور والشخصية ككل.
إن التصور الظواهري ينطلق من اعتبار علاقة الوعي بالعالم علاقة ديناميكية ،.فلا يوجد عالم إلا بالنسبة للوعي ولا يوجد وعي إذا لم يكن وعي عالم. وهكذا يتحدد العالم بطريقة ذاتية .
الواضح إذًا، أن منطلق فلسفة الظواهر يحاول التركيز على الكائن ضمن وضعياته المعاشة وفي علاقاته مع الخارج، مما يجعل الإدراك مرتبطًا بصورة وثيقة بأبعاد الكائن النفسية والجسمانية على حدّ سواء.
 
نقد:إن الظواهريون بإضفائهم الشعور على العالم الخارجي يترتب عنه إخضاع العالم الخارجي إلى الارتياب طالما أن العالم هو ما يتبدى للشعور.
التركيز على تداخل الظواهر النفسية والفيزيوولوجية وعلى علاقتها بمؤثرات المحيط
إن أطروحات النظريات المختلفة حول الإدراك تدعونا إلى استخلاص بعض النتائج:
يعيش الإنسان في بيئة مادية واجتماعية تحيط به آثارها من كل جانب. وفي كل الحالات فإن العالم الخارجي و معرفتنا به يشكلان كلا واحدا موحدا.
ومن الناحية الفلسفية فإن القول بالإحساس الخالص أو العقل المحض مجرد وهم فرضه النزوع المذهبي للعقليين و الحسيين.
و علميا لا يمكن الفصل بينهما لأن الإحساس مسبوق بفعاليات ذهنية كما أن مداركنا تتفاعل مع حواسنا قبل و أثناء و بعد الاتصال الأولي بالعالم الخارجي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق